فصل: تفسير الآيات رقم (39- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


الجزء الثالث

سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عزوجل‏:‏ ‏{‏الر تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الآيات المتقدم ذكرها في السورة التي قبلها‏.‏

الثاني‏:‏ الآيات التي في هذه السورة، ويكون معنى قوله تعالى ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ أي هذه آيات الكتاب المبين‏.‏

الثالث‏:‏ أن تلك الآيات إشارة إلى ما افتتحت به السورة من الحروف وأنها علامات الكتاب العربي، قاله ابن بحر‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الكتاب المبين‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏ أحدها‏:‏ المبين حلاله وحرامه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ المبين هداه ورشده، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ المبين للحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف، قاله معاذ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه قرآناً عربياً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إنا أنزلنا الكتاب قرآناً عربياً بلسان العرب، وهو قول الجمهور‏.‏ الثاني‏:‏ إنا أنزلنا خبر يوسف قرآناً، أي مجموعاً عربياً أي يعرب عن المعاني بفصيح من القصص وهو شاذ‏.‏

‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏‏.‏

‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏ أي نبين لك أحسن البيان، والقاصّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحَدَ عشر كوكباً والشمس والقمر‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه رأى إخوته وأبويه ساجدين له فثنى ذكرهم، وعنى بأحد عشر كوكباً إخوته وبالشمس أباه يعقوب، وبالقمر أمه راحيل رآهم له ساجدين، فعبر عنه بما ذكره، قاله ابن عباس وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له فتأول الكواكب إخوته، والشمس أباه، والقمر أمه، وهو قول الأكثرين‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ الشمس أمه والقمر أبوه، لتأنيث الشمس وتذكير القمر‏.‏

وروى السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود يقال له بستانة فقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رأها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء، فنزل عليه جبريل بأسمائها قال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وقال «أنت تؤمن إن أخبرتك بأسمائها» فقال نعم، فقال‏:‏ «جريان، والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس والوثّاب والعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور» فقال اليهودي‏:‏ بلى والله إنها لأسماؤها‏.‏

وفي إعادة قوله ‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تأكيداً للأول لبعد ما بينهما قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأول رؤيته لهم والثاني رؤيته لسجودهم‏.‏

وفي قوله ‏{‏ساجدين‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه السجود المعهود في الصلاة إعظاماً لا عبادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رآهم خاضعين فجعل خضوعهم سجوداً، كقول الشاعر‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** ترى الأكم فيه سُجّداً للحوافر

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

وقيل إنه كان له عند هذه الرؤيا سبع عشرة سنة، قال ابن عباس‏:‏ رأى هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر، فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته فقال‏:‏ يا بني هذه رؤيا الليل فلا يعول عليها، فلما خلا به ‏{‏ق يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين‏}‏‏.‏

وفي تسميته بيوسف قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم أعجمي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عربي مشتق من الأسف، والأسف في اللغة الحزن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك يجتبيك ربك‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بحسن الخَلق والخُلق‏.‏

الثاني‏:‏ بترك الإنتقام‏.‏

الثالث‏:‏ بالنبوة، قاله الحسن‏.‏ ‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ عبارة الرؤيا، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ العلم والحكمة، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ عواقب الأمور، ومنه قول الشاعر‏:‏

وللأحبة أيام تذكّرُها *** وللنوى قبل يوم البيْن تأويل

‏{‏ويتم نعمته عليك‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ باختيارك للنبوة‏.‏

الثاني‏:‏ بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك، قال مقاتل‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ أن أخرج إخوته إليه حتى أنعم عليهم بعد إساءتهم إليه‏.‏

‏{‏وعلى آل يعقوب‏}‏ بأن جعل فيهم النبوة‏.‏

‏{‏كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم وإسحاق‏}‏ قال عكرمة‏:‏ فنعمته على إبراهيم أن أنجاه من النار، وعلى إسحاق أن أنجاه من الذبح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين‏}‏ في هذه الآيات وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها عِبَرٌ للمعتبرين‏.‏

الثاني‏:‏ زواجر للمتقين‏.‏

وفيها من يوسف وإخوته أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما أظهره الله تعالى فيه من عواقب البغي عليه‏.‏

الثاني‏:‏ صدق رؤياه وصحة تأويله‏.‏

الثالث‏:‏ ضبط نفسه وقهر شهوته حتى سلم من المعصية وقام بحق الأمانة‏.‏

الرابع‏:‏ الفرج بعد شدة الإياس‏.‏ قال ابن عطاء‏:‏ ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا مِنّا‏}‏ وأخوه بنيامين وهما أخوان لأب وأم، وكان يعقوب قد كلف بهما لموت أمهما وزاد في المراعاة لهما، فذلك سبب حسدهم لهما، وكان شديد الحب ليوسف، فكان الحسد له أكثر، ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد‏.‏

‏{‏ونحن عصبة‏}‏ وفي العصبة أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ستة أو سبعة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنها من عشرة إلى خمسة عشر، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ من عشرة إلى أربعين، قاله قتادة

الرابع‏:‏ الجماعة، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

‏{‏إن أبانا لفي ضلال مبين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لفي خطأ من رأيه، قال ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ لفي جور من فعله، قال ابن كامل‏.‏

الثالث‏:‏ لفي محبة ظاهرة، حكاه ابن جرير‏.‏

وإنما جعلوه في ضلال مبين لثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأنه فضّل الصغير على الكبير‏.‏

الثاني‏:‏ القليل على الكثير‏.‏

الثالث‏:‏ من لا يراعي ما له على من يراعيه‏.‏

واختلف فيهم هل كانوا حينئذ بالغين‏؟‏ فذهب قوم إلى أنهم كانوا بالغين مؤمنين ولم يكونوا أنبياء بعد لأنهم قالوا ‏{‏يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين‏}‏ وهذه حالة لا تكون إلا من بالغ، وقال آخرون‏:‏ بل كانوا غير بالغين لأنهم قالوا ‏{‏أرسله معنا غداً نرتع ونلعب‏}‏ وإنما استغفروه بعد البلوغ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ اطرحوه أرضاً لتأكله السباع‏.‏

الثاني‏:‏ ليبعد عن أبيه‏.‏

‏{‏يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا صلاح الدنيا لا صلاح الدين، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أرادوا صلاح الدين بالتوبة، قاله السدي‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنهم أرادوا صلاح الأحوال بتسوية أبيهم بينهم من غير أثرة ولا تفضيل‏.‏ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف‏}‏ اختلف في قائل هذا منهم على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه روبيل وهو أكبر إخوة يوسف وابن خالته، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه شمعون، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يهوذا، قال السدي‏.‏

‏{‏وألقُوه في غيابة الجُبِّ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني قعر الجب وأسفله‏.‏

الثاني‏:‏ ظلمه الجب التي تغيّب عن الأبصار ما فيها، قاله الكلبي‏.‏ فكان رأس الجب ضيقاً وأسفله واسعاً‏.‏

أحدهما‏:‏ لأنه يغيب فيه خبره‏.‏ وفي تسميته

‏{‏غيابة الجب‏}‏ وجهان‏:‏

الثاني‏:‏ لأنه يغيب فيه أثره، قال ابن أحمر‏:‏

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ *** إلى ذاك ما قد غيبتني غيابيا

وفي ‏{‏الجب‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم بئر في بيت المقدس، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بئر غير معينة، وإنما يختص بنوع من الآبار قال الأعشى‏:‏

لئن كنت في جب ثمانين قامة *** ورقيت أسباب السماء بسلم

وفيما يسمى من الآبار جباً قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه ما لا طيّ له من الآبار، قال الزجاج، وقال‏:‏ سميت جبًّا لأنها قطعت من الأرض قطعاً ولم يحدث فيها غير القطع‏.‏

‏{‏يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين‏}‏ معنى يلتقطه يأخذه، ومنه اللقطة لأنها الضالة المأخوذة‏.‏

وفي ‏{‏السيارة‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم المسافرون سُموا بذلك لأنهم يسيرون‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم مارة الطريق، قاله الضحاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أرسله معنا غداً يرتع ويلعب‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ نلهو ونلعب، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ نسعى وننشط، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ نتحارس فيحفظ بعضنا بعضاً ونلهو، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ نرعى ونتصرف، قاله ابن زيد، ومنه قول الفرزدق‏.‏

راحت بمسلمة البغالُ مودعاً *** فارعي فزارة لا هناك المرتع

الخامس‏:‏ نطعم ونتنعم مأخوذ من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب، قاله ابن شجرة وأنشد قول الشاعر‏:‏

أكُفراً بعد رَدّ الموت عنّي *** وبعد عطائك المائة الرِّتاعا

أي الراتعة لكثرة المرعى‏.‏

ولم ينكر عليهم يعقوب عليه السلام اللعب لأنهم عنوا به ما كان مباحاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب، وخوفه إنما كان من قتلهم له فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم، قال ابن عباس فسماهم ذئاباً‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ما خافهم عليه، ولو خافهم ما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب لأنه أغلب ما يخاف منه من الصحارى‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ بل رأى في منامه أن الذئب شَدّ على يوسف فلذلك خافه عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وأوحينا إليه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني وألهمناه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى أوحى إليه وهو في الجب، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

‏{‏لتنبئنهم بأمرهم هذا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا، فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تبشيراً له بالسلامة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به، فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذاراً له‏.‏

‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يشعرون بأنه أخوهم يوسف، قاله قتادة وابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ لا يشعرون بوحي الله تعالى له بالنبوة، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق‏}‏ وهو نفتعل من السباق وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه ننتصل، من السباق في الرمي، قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أرادوا السبق بالسعي على أقدامهم‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم عنوا استباقهم في العمل الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب‏.‏

الرابع‏:‏ أي نتصيد وأنهم يستبقون على اقتناص الصيد‏.‏

‏{‏وتركنا يوسف عند متاعنا‏}‏ يحتمل أن يعنوا بتركه عند متاعهم إظهار الشفقة عليه، ويحتمل أن يعنوا حفظ رحالهم‏.‏

‏{‏فأكله الذئب‏}‏ لما سمعوا أباهم يقول‏:‏ وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه وتحرّموا به لأنه كان أظهر المخاوف عليه‏.‏

‏{‏وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ أي بمصدق لنا‏.‏

‏{‏ولو كنا صادقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يكن ذلك منهم تشكيكاً لأبيهم في صدقهم وإنما عنوا‏:‏ ولو كنا أهل صدق ما صدقتنا، قاله ابن جرير‏.‏

الثاني‏:‏ معناه وإن كنا قد صدقنا، قاله ابن إسحاق‏.‏

قوله عزوجل‏:‏ ‏{‏وجاءُوا على قميصه بدمٍ كذب‏}‏ قال مجاهد‏:‏ كان دم سخلة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان دم ظبية‏.‏

قال الحسن‏:‏ لما جاءُوا بقميص يوسف فلم ير يعقوب فيه شقاً قال‏:‏ يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أيأكل ابني ويبقي على قميصه‏.‏ ومعنى قوله ‏{‏بدم كذب‏}‏ أي مكذوب فيه، ولكن وصفه بالمصدر فصار تقديره بدم ذي كذب‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏بدم كذب‏}‏ بالدال غير معجمة، ومعناه بدم متغير قاله الشعبي‏.‏

وفي القميص ثلاث آيات‏:‏ حين جاءُوا عليه بدم كذب، وحين قُدَّ قميصه من دُبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيراً‏.‏

‏{‏قال بل سوَّلت لكن أنفسكم أمراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بل أمرتكم أنفسكم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بل زينت لكم أنفسكم أمراً، قاله قتادة‏.‏

وفي ردّ يعقوب عليهم وتكذيبه لهم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه كان ذلك بوحي من الله تعالى إليه بعد فعلهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان عنده علم بذلك قديم أطلعه الله عليه‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قال ذلك حدساً بصائب رأيه وصدق ظنه‏.‏

قال ترضيه لنفسه ‏{‏فصبر جميل‏}‏ فاحتمل ما أمر به نفسه من الصبر وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ الصبر على مقابلتهم على فعلهم فيكون هذا الصبر عفواً عن مؤاخذتهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أمر نفسه بالصبر على ما ابتُلي به من فقد يوسف‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فصبرٌ جميل‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى أن من الجميل أن أصبر‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أمر نفسه بصبر جميل‏.‏

وفي الصبر الجميل وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه الصبر الذي لا جزع فيه قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الصبر الذي لا شكوى فيه‏.‏

روى حباب بن أبي حبلة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ‏{‏فصبر جميل‏}‏ فقال‏:‏ «صبر لا شكوى فيه، ومن بث لم يصبر»‏.‏

‏{‏والله المستعان على ما تصفون‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ والله المستعان على الصبر الجميل‏.‏

الثاني‏:‏ والله المستعان على احتمال ما تصفون‏.‏

الثالث‏:‏ يعني على ما تكذبون، قاله قتادة‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ ابتلى الله يعقوب في كبره، ويوسف في صغره لينظر كيف عزمهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وجاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم‏}‏ وهو الذي يرد أمامهم الماء ليستقي لهم‏.‏ وذكر أصحاب التواريخ أنه مالك بن ذعر بن حجر بن يكه بن لخم‏.‏

‏{‏فأدلى دلوه‏}‏ أي أرسلها ليملأها، يقال أدلاها إذا أرسل الدلو ليملأها، ودلاّها إذا أخرجها ملأى‏.‏

قال قتادة‏:‏ فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو حين أرسلت‏.‏ والبئر ببيت المقدس معروف مكانها‏.‏

‏{‏قال يا بشرى هذا غلام‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ناداهم بالبشرى يبشرهم بغلام، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نادى أحدهم، كان اسمه بشرى فناداه باسمه يعلمه بالغلام، قاله السدي‏.‏

‏{‏وأسرُّوه بضاعة‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن إخوة يوسف كانوا بقرب الجب فلما رأوا الوارد قد أخرجه قالوا هذا عبدنا قد أوثقناه فباعوه وأسرّوا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أن الواردين الى الجُب أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم ليكون بضاعة لهم كيلا يشركوهم فيه لرخصه وتواصوا أنه بضاعة استبضعوها من أهل الماء، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن الذين شروه أسرُّوا بيعه على الملك حتى لا يعلم به أصحابهم وذكروا أنه بضاعة لهم‏.‏

وحكى جويبر عن الضحاك أنه ألقيَ في الجب وهو ابن ست سنين، وبقي فيه إلى أن أخرجته السيارة منه ثلاثة أيام‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ ألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة‏.‏

قوله عزوجل‏:‏ ‏{‏وشروه بثمن بخسٍ‏}‏ معنى شروه أي باعوه، ومنه قول ابن مفرغ الحميري‏.‏

وشريت برداً ليتني *** من بعدِ بُرْدٍ كنت هامه

واسم البيع والشراء يطلق على كل واحد من البائع والمشتري لأن كل واحد منهما بائع لما في يده مشتر لما في يد صاحبه‏.‏

وفي بائعه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم إخوته باعوه على السيارة حين أخرجوه من الجب فادّعوه عبداً، قاله ابن عباس والضحاك ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن السيارة باعوه عن ملك مصر، قاله الحسن وقتادة‏.‏

‏{‏بثمن بخس‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن البخس ها هنا الحرام، قاله الضحاك، قال ابن عطاء‏:‏ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها فكان ثمنه وإن جَلّ بخساً، وما هو وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيع نفسك بشهوةٍ ساعةٍ من معاصيك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الظلم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه القليل، قاله مجاهد والشعبي‏.‏

‏{‏دراهم معدودة‏}‏ اختلف في قدرها على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بيع بعشرين درهماً اقتسموها وكانوا عشرة فأخذ كل واحد منهم درهمين، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة وعطية والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ باثنين وعشرين درهماً، كانوا أحد عشر فأخذ كل واحد درهمين، قاله مجاهد‏.‏

الثالث بأربعين درهما، قاله عكرمة وابن إسحاق‏.‏ وكان السدي يقول‏:‏ اشتروا بها خفافاً ونِعالاً‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏دراهم معدودة‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معدودة غير موزونة لزهدهم فيه‏.‏

الثاني‏:‏ لأنها كانت أقل من أربعين درهماً، وكانوا لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً، لأن أقل الوزن عندهم كان الأوقية، والأوقية أربعون درهماً‏.‏

‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ وفي المعنيّ بهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم إخوة يوسف كانوا فيه من الزاهدين حين صنعوا به ما صنعوا‏.‏

الثاني‏:‏ أن السيارة كانوا فيه من الزاهدين حين باعوه بما باعوه به‏.‏

وفي زهدهم فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لعلمهم بأنه حرٌّ لا يبتاع‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كان عندهم عبداً فخافوا أن يظهر عليه مالكوه فيأخذوه‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ أنهم كانوا في ثمنه من الزاهدين لاختبارهم له وعلمهم بفضله، وقال عكرمة أعتق يوسف حين بيع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عزو جل‏:‏ ‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر‏}‏ وهو العزيز ملكها واسمه إظفير بن رويجب‏.‏

‏{‏لامرأته‏}‏ واسمها راعيل بنت رعاييل، على ما ذرك ابن اسحاق‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ اسمه قطفير وكان على خزائن مصر، وكان الملك يومئذ الوليد بن الرّيان من العماليق‏.‏

قال مقاتل‏:‏ وكان البائع له للملك مالك بن ذعر بعشرين ديناراً وزاده حُلة ونعلين‏.‏

‏{‏أكرمي مثواه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أجملي منزلته‏.‏

الثاني‏:‏ أجلي منزلته، قال كثير‏:‏

أريد ثواءً عندها وأظُنُّها *** إذا ما أطَلْنا عندها المكث ملَّت

وإكرام مثواه بطيب طعامه ولين لباسه وتوطئة مبيته‏.‏

‏{‏عسى أن ينفعنا‏}‏ قيل‏:‏ في ثمنه إن بعناه‏.‏ ويحتمل‏:‏ ينفعنا في الخدمة والنيابة‏.‏

‏{‏أو نتخذه ولداً‏}‏ إن أعتقناه وتبنيناه‏.‏

قال عبد الله بن مسعود‏:‏ أحسن الناس في فراسة ثلاثة‏:‏ العزيز في يوسف حين قال لامرأته ‏{‏أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا‏}‏ وابنة شعيب في موسى حين قالت لأبيها ‏{‏يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏ وأبو بكر حين استخلف عمر‏.‏

‏{‏وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بإخراجه من الجب‏.‏

الثاني‏:‏ باستخلاف الملك له‏.‏

‏{‏ولنعلمه من تأويل الأحاديث‏}‏ قد ذكرنا في تأويله وجهين‏.‏

‏{‏والله غالبٌ على أمره‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ غالب على أمر يوسف حتى يبلغ فيه ما أراده له، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ غالب على أمر نفسه فيما يريده، أن يقول له كن فيكون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشدَّه‏}‏ يعني منتهى شدته وقوة شبابه‏.‏ وأما الأشدُّ ففيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ببلوغ الحلم، قاله الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ عشرون سنة، قاله ابن عباس والضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة‏.‏

الخامس‏:‏ ثلاثون سنة، قاله السدي‏.‏

السادس‏:‏ ثلاث وثلاثون سنة‏.‏ قاله الحسن ومجاهد وقتادة‏.‏

هذا أول الأشد، وفي آخر الأشد قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أربعون سنة، قاله الحسن‏.‏ الثاني‏:‏ أنه ستون سنة، حكاه ابن جرير الطبري، وقال سُحَيْم بن وثيل الرياحي‏:‏

أخو خمسين مجتمع أشُدّي *** وتجذّني مداورة الشئون

وفي المراد ببلوغ الأشد في يوسف قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عشرون سنة، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ ثلاثون سنة، وهو قول مجاهد‏.‏

‏{‏آتيناه حكماً وعلماً‏}‏ في هذا الحكم الذي آتاه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ العقل، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ الحكم على الناس‏.‏

الثالث‏:‏ الحكمة في أفعاله‏.‏

الرابع‏:‏ القرآن، قاله سفيان‏.‏

الخامس‏:‏ النبوة، قاله السدي‏.‏ وفي هذا العلم الذي آتاه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الفقه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ النبوة، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ أنه العلم بتأويل الرؤيا‏.‏

‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المطيعين‏.‏

الثاني‏:‏ المهتدين، قاله ابن عباس‏.‏ والفرق بين الحكيم والعالم أن الحكيم هو العامل بعلمه، والعالم هو المقتصر على العلم دون العمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏}‏ وهي راعيل امرأة العزيز إظفير‏.‏ قال الضحاك‏:‏ وكان اسمها زليخا‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان إظفير فيما يحكى لنا رجلاً لا يأتي النساء وكانت امرأته حسناء، وكان يوسف عليه السلام قد أُعطي من الحسن ما لم يعطه أحد قبله ولا بعده كما لم يكن في النساء مثل حواء حسناً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين‏.‏

فراودته امرأة العزيز عن نفسه استدعاء له إلى نفسها‏.‏

‏{‏وغلقت الأبواب‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بتكثير الأغلاق‏.‏

الثاني‏:‏ بكثرة الإيثاق‏.‏ ‏{‏وقالت هيت لك‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه تهيأت لك، قاله عكرمة وأبو عبد الرحمن السلمي، وهذا تأويل من قرأ بكسر الهاء وترك الهمز، وقال الشاعر‏:‏

قد رابني أن الكرى أسكتا *** لو كان معنياً بها لهيتا

الثاني‏:‏ هلم لك، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ وأنشد أبو عمرو بن العلاء‏:‏

أبلغ أمير المؤمنين أخا *** العراق إذا أتيتا

أن العراق وأهله *** عنق إليك، فهيت هيتا

وهذا تأويل من قرأ هيت لك بفتح الهاء وهي أصح وأفصح، قال طرفة بن العبد‏:‏

ليس قومي بالأبعدين إذا ما *** قال داع من العشيرة‏:‏ هيتا

ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الكلمة فحكى عطية عن ابن عباس أن ‏{‏هيت لك‏}‏ كلمة بالقبطية معناها هلم لك، وقال مجاهد بل هي كلمة عربية هذا معناها وقال الحسن‏:‏ هي كلمة سريانية‏.‏

‏{‏قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي‏}‏ أي أعوذ بالله‏.‏

وفي ‏{‏إنه ربي أحسن مثواي‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن الله ربي أحسن مثواي فلا أعصيه، قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد العزيز إظفير إنه ربي أي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه‏.‏ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى بُرهان ربه‏}‏ أما همها به ففيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان هَمَّ شهوة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها استلقت له وتهيأت لمواقعته‏.‏

وأما همّه بها ففيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه همّ بها أن يضربها حين راودته عن نفسه ولم يهم بمواقعتها قاله بعض المتأخرين‏.‏

الثاني‏:‏ أن قوله ولقد همت به كلام تام قد انتهى، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف فقال ‏{‏وهم بها لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ ومعنى الكلام لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، قاله قطرب‏.‏

الثالث‏:‏ أن همها كان شهوة، وهمه كان عفة‏.‏

الرابع‏:‏ أن همه بها لم يكن عزماً وإرادة وإنما كان تمثيلاً بين الفعل والترك، ولا حرج في حديث النفس إذا لم يقترن به عزم ولا فعل، وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلاً، ومنه قول جميل‏:‏

هممت بهمِّ من بثينة لو بدا *** شفيت غليلات الهوى من فؤاديا

الخامس‏:‏ أنه همه كان حركة الطباع التي في قلوب الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له وهو معنى قول الحسن‏.‏

السادس‏:‏ أنه هم بمواقعتها وعزم عليه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وحل الهميان يعني السراويل وجلس بين رجليها مجلس الرجل من المرأة، وهو قول جمهور المفسرين‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا الفعل وهو نبي الله عز وجل‏؟‏

قيل‏:‏ هي منه معصية، وفي معاصي الأنبياء ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن كل نبي ابتلاه الله بخطيئة إنما ابتلاء ليكون من الله تعالى على وجل إذا ذكرها فيجدّ في طاعته إشفاقاً منها ولا يتكل على سعة عفوه ورحمته‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى ابتلاهم بذلك ليعرفهم موقع نعمته عليهم بصفحه عنهم وترك عقوبتهم في الآخرة على معصيتهم‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك الإياس في عفوه عنهم إذا تابوا‏.‏

وفي قوله تعالى ‏{‏لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن برهان ربه الذي رآه أن نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة، قال ابن عباس‏:‏ نودي اي ابن يعقوب تزني فيكون مثلك مثل طائر سقط ريشه فذهب يطير فلم يستطع‏.‏

الثاني‏:‏ أنه رأى صورة يعقوب وهو يقول‏:‏ يا يوسف أتهمُّ بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء‏؟‏ فخرجت شهوته من أنامله، قاله قتادة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف فلم يولد له إلا غلامان ونقص بتلك الشهوة ولده‏.‏

الثالث‏:‏ أن البرهان الذي رآه ما أوعد الله تعالى على الزنى، قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ رأى كتاباً على الحائط‏:‏

‏{‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ أن البرهان الذي رآه‏.‏ الملك إظفير سيده، قاله ابن إسحاق‏.‏

الخامس‏:‏ أن البرهان الذي رآه هو ما آتاه الله تعالى من آداب آبائه في العفاف والصيانة وتجنب الفساد والخيانة، قاله ابن بحر‏.‏

السادس‏:‏ أن البرهان الذي رآه أنه لما همت به وهم بها رأى ستراً فقال لها‏:‏ ما وراء هذه الستر‏؟‏ فقالت‏:‏ صنمي الذي أعبده أستره استحياء منه‏.‏ فقال‏:‏ إذا استحيت مما لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء‏}‏ فيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن السوء الشهوة، والفحشاء المباشرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن السوء عقوبة الملك العزيز‏.‏ والفحشاء مواقعة الزنى‏.‏

‏{‏إنه من عبادنا المخلصين‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المخلصين بكسر اللام، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله تعالى‏.‏

وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها الذين أخلصهم الله برسالته، وقد كان يوسف عليه السلام بهاتين الصفتين لأنه كان مخلصاً في طاعة الله تعالى، مستخلصاً لرسالة الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واستبقا الباب‏}‏ أي أسرعا إليه، أما يوسف فأسرع إليه هرباً، وأما امرأة العزيز فأسرعت إليه طلباً‏.‏

‏{‏وقَدت قميصه من دبر‏}‏ لأنها أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته من ورائه فشقت قميصه إلى ساقه، قال ابن عباس‏:‏ وسقط عنه وتبعته‏.‏

‏{‏وألفيا سيدها لَدى الباب‏}‏ أي وجدا زوجها عند الباب‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ والسيد هو الزوج بلسان القبط‏.‏

‏{‏قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاّ أن يسجن أو عذابٌ أليمٌ‏}‏ هذا قولها لزوجها لتدفع الريبة عن نفسها بإلقائها على يوسف، ولو صدق حبها لم تفعل ذلك به ولآثرته على نفسها، ولكنها شهوة نزعت ومحبة لم تصف‏.‏ وذلك أنه لما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر بالتكذيب عليه، ولو خلص من الشهوة لطلبت دفع الضرر عنه بالصدق‏.‏ ‏{‏قال هي راودتني عن نفسي‏}‏ لأنها لما برأت نفسها بالكذب عليه احتاج أن يبرئ نفسه بالصدق عليها، ولو كفت عن الكذب عليه لكف عن الصدق عليها‏.‏

‏{‏وشهد شاهد من أهلها‏}‏ لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد يعلم به صدق الصادق منهما من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها، أي حكم حاكم من أهلها لأنه حكم منه وليس شهادة‏.‏

وفيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه صبي أنطقه الله تعالى في مهده، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنس ولا جن، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه رجل حكيم من أهلها، قاله قتادة‏.‏ قال السدي وكان ابن عمها‏.‏

الرابع‏:‏ أنه عنى شهادة القميص المقدود، قاله مجاهد أيضاً‏.‏

‏{‏إن كان قميصُه قد مِن قُبل فصدقت وهو من الكاذبين‏}‏

‏{‏وإن كان قميصه قد من دُبر فكذبت وهو من الصادقين‏}‏ لأن الرجل إذا طلب المرأة كان مقبلاً عليها فيكون شق قميصه من قبله دليلاً على طلبه‏.‏ وإذا هرب من المرأة كان مدبراً عنها فيكون شق قميصه من دبره دليلاً على هربه‏.‏

وهذه إحدى الآيات الثلاث في قميصه‏:‏ إن كان قُدَّ من دبر فكان فيه دليل على صدقه، وحين جاءوا على قميصه بدم كذب، وحين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيراً‏.‏

‏{‏فلما رأى قميصه قُدَّ من دُبُرٍ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم‏}‏ علم بذلك صدق يوسف فصدّقه وقال إنه من كيدكن‏.‏

وفي الكيد هما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني به كذبها عليه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد السوء الذي دعته إليه‏.‏

وفي قائل ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الزوج، قاله محمد بن إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الشاهد، حكاه علي بن عيسى‏.‏

قوله عزوجل‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أعرض عن هذا الأمر، قال قتادة‏:‏ على وجه التسلية له في ارتفاع الإثم‏.‏

الثاني‏:‏ أعرض عن هذا القول، قاله ابن زيد على وجه التصديق له في البراءة من الذنب‏.‏

‏{‏واستغفري لذنبك‏}‏ هذا قول الملك لزوجه وهو القائل ليوسف أعرض عن هذا‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يكن غيوراً فلذلك كان ساكتاً‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفى بادرته وحلم عنها فأمرها بالاستغفار من ذنبها توبة منه وإقلاعاً عنه‏.‏

‏{‏إنك كنت من الخاطئين‏}‏ يعني من المذنبين، يقال لمن قصد الذنب خَطِئ، ولمن لم يقصده أخطأ، وكذلك في الصوب والصواب، قال الشاعر‏:‏

لعمرك إنما خطئي وصوبي *** عليّ وإنما أهلكت مالي

وقال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لتغليب المذكر على المؤنث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال نسوة في المدينة‏}‏ قال جويبر‏:‏ كن أربعاً‏:‏ امرأة الحاجب وامرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة القهرمان‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وامرأة صاحب السجن وفي هذه المدينة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ مصر‏.‏

الثاني‏:‏ عين شمس‏.‏ ‏{‏امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه‏}‏ قلن ذلك ذماً لها وطعناً فيها وتحقيقاً لبراءة يوسف وإنكاراً لذنبه‏.‏

والعزيز اسم الملك مأخوذ من عزته، ومنه قول أبى داؤد‏:‏

درة غاص عليها تاجر *** جلبت عند عزيز يوم طل

‏{‏قد شغفها حبّاً‏}‏ أي قد دخل حبه من شغاف قلبها‏.‏ وفي شغاف القلب خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه حجاب القلب، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه غلاف القلب وهو جلدة رقيقة بيضاء تكون على القلب وربما سميت لباس القلب، قاله السدي وسفيان‏.‏

الثالث‏:‏ أنه باطن القلب، قاله الحسن، وقيل هو حبة القلب‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ما يكون في الجوف، قاله الأصمعي‏.‏

الخامس‏:‏ هو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب، قاله إبراهيم‏.‏

وقد قرئ في الشواذ عن ابن محيصن‏:‏ قد شعفها حباً ‏(‏بالعين غير معجمة‏)‏ واختلف في الفرق بينهما على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الشغف بالغين معجمة هو الجنون وبالعين غير معجمة هو الحب، قاله الشعبي‏.‏

والثاني‏:‏ أن الشغف بالإعجام الحب القاتل، والشعف بغير إعجام دونه، قاله ابن عباس وقال أبو ذؤيب‏:‏

فلا وجْدَ إلا دُون وجْدٍ وجَدته *** أصاب شغافَ القلب والقلبُ يشغف

‏{‏إنا لنراها في ضلال مبين‏}‏ فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ في ضلال عن الرشد وعدول عن الحق‏.‏

الثاني‏:‏ معناه في محبة شديدة‏.‏ ولما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر عن نفسها بالكذب عليه، ولو خلص من الشهوة طلبت دفع الضرر عنه بالصدق على نفسها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما سمعت بمكرهن‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ذمهن لها وإنكارهن عليها‏.‏

الثاني‏:‏ أنها أسرت إليهن بحبها له فأشعْن ذلك عنها‏.‏

‏{‏أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ‏}‏ وفي ‏{‏أعتدت‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه من الإعداد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه من العدوان‏.‏

وفي ‏(‏المُتْكَأ‏)‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المجلس، قاله ابن عباس والحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أنه النمارق والوسائد يتكأ عليها، قاله أبو عبيدة والسدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الطعام مأخوذ من قول العرب اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده، وأصله أن من دعي إلى طعام أُعد له متكأ فسمي الطعام بذلك متكأ على الاستعارة‏.‏ فعلى هذا أي الطعام هو‏؟‏

فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الزُّماورد، قاله الضحاك وابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الأترج، قاله ابن عباس ومجاهد وهو وتأويل من قرأها مخففة غير مهموزة، والمتْك في كلامهم الأترج، قال الشاعر‏:‏

نشرب الإثم بالصُّواع جهارا *** وترى المتك بيننا متسعارا

والإثم‏:‏ الخمر، والمتك‏:‏ الأترج‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كل ما يجز بالسكين وهو قول عكرمة لأنه في الغالب يؤكل على متكأ‏.‏

الرابع‏:‏ أنه كل الطعام والشراب على عمومه، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة‏.‏

‏{‏وآتت كلَّ واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن‏}‏ وإنما دفعت ذلك إليهن في الظاهر معونة على الأكل، وفي الباطن ليظهر من دهشتهن ما يكون شاهداً عليهن‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كان كالعبد لها فلم تمكنه أن يخرج إلا بأمرها‏.‏

‏{‏فلما رأينه أكبرنه‏}‏ وفيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أعظمنه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ معناه وجدن شأنه في الحسن والجمال كبيراً، قال ابن بحر‏.‏

الثالث‏:‏ معناه‏:‏ حضن عند رؤيته، وهو قول رواه عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ إن المرأة إذا جزعت أو خافت حاضت، وقد يسمى الحيض إكباراً، قال الشاعر‏:‏

نأتي النساء على أطهارهن ولا *** نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً

‏{‏وقطعن أيديهن‏}‏ دهشاً ليكون شاهداً عليهن على ما أضمرته امرأة العزيز فيهن‏.‏

وفي قطع أيديهن وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن قطعن أيديهن حتى بانت‏.‏

الثاني‏:‏ أنهن جرحن أيديهن حتى دميت، من قولهم قطع فلان يده إذا جرحها‏.‏

‏{‏وقلن حاش لله‏}‏ بالألف في قراءة أبي عمرو ونافع في رواية الأصمعي وقرأ الباقون حاش لله بإسقاط الألف، ومعناهما واحد‏.‏

وفي تأويل ذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معاذ الله، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ معناه سبحان الله، قاله ابن شجرة‏.‏

وفي أصله وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه مأخوذ من قولهم كنت في حشا فلا أي في ناحيته‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مأخوذ من قولهم حاش فلاناً أى اعزله في حشا يعني في ناحية‏.‏ ‏{‏ما هذا بشراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما هذا أهلاً للمباشرة‏.‏

الثاني‏:‏ ما هذا من جملة البشر‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لما علمهن من عفته وأنه لو كان من البشر لأطاعها‏.‏

الثاني‏:‏ لما شاهدن من حسنه البارع وجماله البديع ‏{‏إن هذا إلا ملك كريم‏}‏ وقرئ ما هذا بشراً ‏(‏بكسر الباء والشين‏)‏ أى ما هذا عبداً مشترى إن هذا إلا ملك كريم، مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيماً لشأنه‏.‏

قوله عزوجل ‏{‏قال رب السجن أحب إلىَّ مما يدعونني إليه‏}‏ وهذا يدل على أنها دعته إلى نفسها ثانية بعد ظهور حالهما، فقال‏:‏ ‏{‏رب السجن أحب إلىَّ‏}‏ يعني الحبس في السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه‏.‏

ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة وكنى عنها بخطاب الجمع إما تعظيماً لشأنها في الخطاب وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد بذلك جماعة النسوة اللاتي قطعن أيديهن حين شاهدنه لاستحسانهن له واستمالتهن لقلبه‏.‏

‏{‏وإِلاَّ تصرف عني كيدهن‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما دعي إليه من الفاحشة إذا أضيف ذلك إلى امرأة العزيز‏.‏

الثاني‏:‏ استمالة قلبه إذا أضيف ذلك إلى النسوة‏.‏

‏{‏أصْبُ إِليهن‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أتابعهن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أمل إليهن، ومنه قول الشاعر‏:‏

إلى هند صبا قلبي *** وهند مثلها يصبي

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات‏}‏ في الآيات التي رأوها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قدُّ القميص وحز الأيدي‏.‏

الثاني‏:‏ ما ظهر لهم من عفته وجماله حتى قلن ‏{‏ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم‏}‏‏.‏

‏{‏ليسجننه حتى حين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الحين ها هنا ستة أشهر، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ أنه سبع سنين، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه زمان غير محدود، قاله كثير من المفسرين‏.‏

وسبب حبسه بعد ظهور صِدْقه ما حكى السدي أن المرأة قالت لزوجها‏:‏ إن هذا العبد العبراني قد فضحني وقال إني راودته عن نفسه، فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه مثل ما حبستني، فحبسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ودخَلَ معه السجن فتيان‏}‏ قال ابن عباس‏:‏

كان أحدهما خازن الملك على طعامه، وكان الآخر ساقي الملك على شرابه، وكان الملك وهو الملك الأكبر الوليد بن الرّيان قد اتهمهما بسمّه فحبسهما، فحكى مجاهد أنهما قالا ليوسف لما حُبسا معه‏:‏ والله لقد أحببناك حين رأيناك، فقال يوسف‏:‏ أنشدكما بالله أن أحببتماني فما أحبّني أحد إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي العزيز فدخل عليّ من حبها بلاء، لا أريد أن يحبني إلا ربي‏.‏

وقال ‏{‏فتيان‏}‏ لأنهما كان عبدين، والعبد يسمى فتى صغيراً كان أم كبيراً‏.‏

‏{‏قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خُبزاً تأكل الطير منه‏}‏ وسبب قولهما ذلك ما حكاه ابن جرير الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال‏:‏ إني أعبر الرؤيا، فسألاه عن رؤياهما وفيها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها قال مجاهد وابن إسحاق‏:‏ وكذلك صدق تأويلها‏.‏ روى محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً

»‏.‏ الثاني‏:‏ أنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجربة، فلما أجابهما قالا‏:‏ إنما كنا نلعب فقال ‏{‏قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ وهذا معنى قول ابن مسعود والسدي‏.‏

الثالث‏:‏ أن المصلوب منهما كان كاذباً، والآخر صادقاً، قاله أبو مجلز‏.‏

وقوله ‏{‏إني أراني أعصر خمراً‏}‏ أي عنباً‏.‏ وفي تسميته خمراً وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن عصيره يصير خمراً فعبر عنه بما يؤول إليه‏.‏

الثاني‏:‏ أن أهل عُمان يسمون العنب خمراً، قال الضحاك‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ إني أراني أعصر عنباً‏.‏

‏{‏نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم وصفوه بذلك لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ معناه لأنه كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالثواب والأجر‏.‏

الثالث‏:‏ إنا نراك ممن أحسن العلم‏.‏ حكاه ابن جرير الطبري‏.‏

الرابع‏:‏ أنه كان لا يرد عذر معتذر‏.‏

الخامس‏:‏ أنه كان يقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه‏.‏

السادس‏:‏ إنا نراك من المحسنين إن أنبأتنا بتأويل رؤيانا هذه، قاله ابن إسحاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏قَال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يصلكما لأنه كان يخبر بما غاب مثل عيسى، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن الملك كان من عادته إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معروفاً وأرسل به إليه، فكره يوسف تعبير رؤيا السوء قبل الإياس من صاحبها لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه، فلما ألحّ عليه عبرها، لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه، فلما ألحَّ عليه عبرها، قاله ابن جريج‏.‏ وكذلك روى ابن سيرين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى رؤيا فلا يقصها إلا على حبيب أو لبيب»‏.‏

‏{‏ذلكما مما علمنى ربي‏}‏ يعني تأويل الرؤيا‏.‏

‏{‏إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏‏.‏ وإنما عدل عن تأويل ما سألاه عنه لما كان فيها من الكرامة، وأخبر بترك ملة قوم لا يؤمنون تنبيهاً لهم على ثبوته وحثاً لهم على طاعة الله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء، وعلى الناس أن بعثنا إليهم رسلاً‏.‏

ويحتمل وجهاً آخر ذلك من فضل الله علينا في أن برأنا من الزنى، وعلى الناس من أن خلصهم من مأثم القذف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ذلك الدين المستقيم، قاله السدي‏.‏ الثاني‏:‏ الحساب البيّن، قاله مقاتل بن حيان‏.‏

الثالث‏:‏ يعني القضاء الحق، قاله ابن عباس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا صاحبي السجين أما أحدكما فيسقي ربه خمراً‏}‏ وهو الذي قال‏:‏ إني أراني أعصر خمراً، بشره بالنجاة وعوده إلى سقي سيده خمراً لأنه كان ساقيه‏.‏

‏{‏وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه‏}‏ وهو الذي قال ‏{‏إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه‏}‏ فأنذره بالهلكة وكان خباز الملك، قال ابن جرير‏:‏ وكان اسمه مجلثاً، واسم الساقي نبواً‏.‏ فلما سمع الهالك منهما تأويل رؤياه قال‏:‏ إنما كنا نلعب‏.‏

قال ‏{‏قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ قضي السؤال والجواب‏.‏

الثاني‏:‏ سيقضى تأويله ويقع‏.‏

فإن قيل‏:‏ فكيف قطع بتأويل الرؤيا وهو عنده ظن من طريق الاجتهاد الذي لا يقطع فيه‏؟‏ ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يجوز أن يكون قاله عن وحي من الله تعالى‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه نبي يقطع بتحقيق ما أنطقه الله تعالى وأجراه على لسانه، بخلاف من ليس بنبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ يعني للذي علم أنه ناج، فعبر عن العلم بالظن، قاله ابن شجرة‏.‏ الثاني‏:‏ أنه ظن ذلك من غير يقين‏.‏

وفي ظنه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأن عبارة الرؤيا بالظن فلذلك لم يقطع به، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لم يتيقن صدقهما في الرؤيا فكان الظن في الجواب لشكه في صدقهما‏.‏

‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ أي عند سيدك يعني الملك الأكبر الوليد بن الريان تأميلاً للخلاص إن ذكره عنده‏.‏

‏{‏فأنساه الشيطان ذكر ربِّه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الذي نجا منهما أنساه الشيطان ذكر يوسف عند سيده حتى رأى الملك الرؤيا قاله محمد بن إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ أن يوسف أنساه الشياطن ذكر ربه في الاستغاثة به والتعويل عليه‏.‏

روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال‏:‏ اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث

»‏.‏ ‏{‏فلبث في السِّجن بضع سنين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عوقب يوسف بطول السجن بضع سنين لما قال للذي نجا منهما اذكرني عند ربك، ولو ذكر يوسف ربه لخلصه‏.‏ وفي «البضع» أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من ثلاث إلى سبع، وهذا قول أبي بكر الصديق وقطرب‏.‏

الثاني‏:‏ من ثلاث إلى تسع، قاله مجاهد والأصمعي‏.‏

الثالث‏:‏ من ثلاث إلى عشر، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ ما بين الثلاث إلى الخمس، حكاه الزجاج‏.‏

قال الفراء‏:‏ والبِضع لا يذكر إلا مع العشرة والعشرين إلى التسعين، ولا يذكر بعد المائة‏.‏

وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجوناً ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لبث اثنتي عشرة سنة، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ لبث أربعة عشرة سنة، قاله الضحاك، وإنما البضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله‏.‏

وقال وهب‏:‏ حبس يوسف سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين‏.‏

قال الكلبي‏:‏ حبس سبع سنين بعد الخمس السنين التي قال فيها ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 49‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وهذه الرؤيا رآها الملك الأكبر الوليد بن الريان وفيها لطف من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها كانت سبباً لخلاص يوسف من سجنه‏.‏

الثاني‏:‏ أنها كانت نذيراً بجدب أخذوا أهبته وأعدوا له عدته‏.‏

‏{‏يا أيها الملأ افتوني في رؤياي‏}‏ وذلك أن الملك لما لم يعلم تأويل رؤياه نادى بها في قومه ليسمع بها من يكون عنده عِلْمٌ بتأويلها فيعبرها له‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قالوا أضغاث أحلام‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني أخلاط أحلام، قاله معمر وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ألوان أحلام، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أهاويل أحلام قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ أكاذيب أحلام، قاله الضحاك‏.‏

وفيه خامس‏:‏ شبهة أحلام، قاله ابن عباس‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا، ومنه قول الشاعر‏:‏

كضغث حلم عُزَّ منه حالمُه‏.‏ *** وروى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب

»‏.‏ وفي تقارب الزمان وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه استواء الليل والنهار لأنه وقت اعتدال تنفتق فيه الأنوار وتطلع فيه الثمار فكان أصدق الزمان في تعبير الرؤيا‏.‏

الثاني‏:‏ أنه آخر الزمان وعند انتهاء أمده‏.‏

والأضغاث جمع واحده ضغث والضغث الحزمة من الحشيش المجموع بعضه إلى بعض وقيل هو ملء الكف، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ بيدك ضغثاً‏}‏ وقال ابن مقبل‏.‏

خَوْذٌ كَأَنَّ فِرَاشَهَا وُضِعَتْ بِهِ *** أَضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شَمَالِ

والأحلام جمع حُلم، والحُلم الرؤيا في النوم، وأصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش فقيل لما يرى في النوم حلم لأنها حال أناة وسكون‏.‏

‏{‏وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏}‏ فدل ذلك على أنه ليس التأويل الأول مما تؤؤل به الرؤيا هو الحق المحكوم به لأن يوسف عرفهم تأويلها بالحق، وإنما قال يوسف للغلامين ‏{‏قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ لأنه منه نذير نبوة‏.‏ ويجوز أن يكون الله تعالى صرف هؤلاء عن تفسير هذه الرؤيا لطفاً بيوسف ليتذكر الذي نجا منهما حاله فتدعوهم الحاجة إليه فتكون سبباً لخلاصه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال الذي نجا منهما وادّكر بَعْدَ أمة‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني بعد حين، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بعد نسيان، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ بعد أمة من الناس، قاله الحسن‏.‏

قال الحسن‏:‏ ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة وجمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة‏.‏

وقرئ ‏{‏وادّكر بعد أمَةٍ‏}‏ بفتح الألف وتخفيف الميم، والأمه‏:‏ بالتخفيف النسيان‏.‏

‏{‏أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون‏}‏ أي أخبركم بمن عنده علم بتأويله ثم لم يذكره لهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لم يكن السجن بالمدينة فانطلق إلى يوسف حين أذن له وذلك بعد أربع سنين بعد فراقه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يوسف أيها الصديق أفتنا‏}‏ احتمل تسميته بالصديق وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لصدقه في تأويل رؤياهما‏.‏

الثاني‏:‏ لعلمه بنبوته‏.‏ والفرق بين الصادق والصديق أن الصادق في قوله بلسانه، والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره، فصار كل صدّيق صادقاً وليس كل صادق صدّيقاً‏.‏

‏{‏أفتنا في سبع بقرات سمان‏}‏ قال قتادة‏:‏ هي السنون المخصبات‏.‏

‏{‏يأكلهن سبع عجافٌ‏}‏ قال قتادة‏:‏ هي السنون المجدبات‏.‏

‏{‏وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات‏}‏ والخضر الخصب لأن الأرض بنباتها خضراء، واليابسات هي الجدب لأنّ الأرض فيه يابسة، كما أن ماشية الخصب سمان، وماشية الجدب عجاف‏.‏

‏{‏لعلي أرجع إلى الناس‏}‏ أي لكي أرجع إلى الناس وهو الملك وقومه، ويحتمل أن يريد الملك وحده فعبر عنه بالناس تعظيماً له‏.‏

‏{‏ولعلهم يعلمون‏}‏ لأنه طمع أن يعلموا وأشفق أن لا يعلموا، فلذلك قال ‏{‏لعلهم يعلمون‏}‏ يعني تأويلها‏.‏ ولم يكن ذلك منه شكاً في علم يوسف‏.‏ لأنه قد وقر في نفسه علمه وصدقه، ولكن تخوف أحد أمرين إما أن تكون الرؤيا كاذبةً، وإما ألاّ يصدقوا تأويلها لكراهتهم له فيتأخر الأمر إلى وقت العيان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال تزرعون سبع سنين دأباً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني تباعاً متوالية‏.‏

الثاني‏:‏ يعني العادة المألوفة في الزراعة‏.‏

‏{‏فما حصدتم فذروه في سُنْبُلهِ إلا قليلاً مما تأكلون‏}‏ يعني فيخرج من سنبله لأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل، وهذا القول منه أمر، والأول خبر، ويجوز لكونه نبياً أن يأمر بالمصالح، ويجوز أن يكون القول الأول أيضاً أمراً وإن كان الأظهر منه أنه خبر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد‏}‏ يعني المجدبات لشدتها على أهلها‏.‏

وحكى زيد بن أسلم عن أبيه أن يوسف كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفه، حتى إذا كان يوماً قربه له فأكله كله، فقال يوسف‏:‏ هذا أول يوم السبع الشداد‏.‏

‏{‏يأكلن ما قدمتم لهن‏}‏ يعني تأكلون فيهن ما ادخرتموه لهن‏.‏

‏{‏إلا قليلاً مما تحصنون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مما تدخرون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ مما تخزنون في الحصون‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ إلا قليلاً مما تبذرون لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يغاثون بنزول الغيث، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يغاثون بالخصب، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وفيه يعصرون‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعصرون العنب والزيتون من خصب الثمار، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أي فيه يجلبون المواشي من خصب المراعي، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر، من قوله تعالى ‏{‏وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 14‏]‏‏.‏ قاله عيسى بن عمر الثقفي‏.‏

الرابع‏:‏ تنجون، مأخوذ من العُصْرة وهي المنجاة، قاله أبو عبيدة والزجاج، ومنه قول الشاعر‏:‏

صادياً يستغيث غير مغاث *** ولقد كان عُصْرَة المنجود

الخامس‏:‏ تحسنون وتفضلون، ومنه قول الشاعر‏:‏

لو كان في أملاكنا ملك *** يعصر فينا مثل ما تعصر

أي يحسن‏:‏ وهذا القول من يوسف غير متعلق بتأويل الرؤيا وإنما هو استئناف خبر أطلقه الله تعالى عليه من آيات نبوته‏.‏